مهملات (قصة قصيرة)
صفحة 1 من اصل 1
مهملات (قصة قصيرة)
مهملات (قصة قصيرة)
مهمــــلات (قصة قصيرة) تأليف: وريدة كلّوش
مشى بخطوات سريعة نحو مسجد الحي، إنه آذان العشاء و عليه ان يكون في الصف الأول بعد الإمام كما تعوّد دائما، فذاك هو المكان المحبب إلى قلبه، صلى و سلم ثم رفع يديه إلى السماء داعيا الله تعالى أن يسدّد خطاه و أن يغنيه بحلاله عن حرامه، ثم خرج إلى عمله.
إنه يعمل بالليل حيث الناس بين راقد تدغدغه أحلامه، و صاح يلهو مع اصحابه و خلانه ،و كلاهما يتقاطعان في نقطة واحدة: نسيان ما فات من آلام النهار، و ضنك العيش، وهموم الدنيا، و مشاكل الحياة..
صاحبنا لم يكن يعرف من هذه المصطلحات شيئا، عاش طوال حياته راض بقضاء الله و قدره، مطمئنا على رزقه، مكتفيا بقوت يومه، تلك اللقيمات التي ما إن يتناولها مع زوجته و أبنائه الخمس حتى يشعر بسعادة بالغة يداهن بها أصحاب القصور، لقد كان يعمل ليلا طوال الشهر ليحصل على راتب زهيد، كان يصفه أقرباؤه بالـ “بقشيش” لكنهم يحسدون صاحبنا على الرضا الذي يهنأ بين جنباته.
و هكذا مضت الأيام بصاحبنا، بين أزقة المدينة الضيقة حيث يقطن أمثاله من المستورين، و شوارعها الفسيحة حيث طبقة راقية لا يعلم بحالها إلا الله، يجمع أكياس القمامة و يرمي بها في الشاحنة ثم تذهب الشاحنة إلى أبعد نقطة في البلدة لتهوي بالذي تحمله في واد سحيق.
ذات يوم، وصل صاحبنا كعادته لأحد الشوارع الغنية، شارع مترامي الأطراف، تزيّنه قناديل كاشفة كأنها درر تنصع ، يملؤه فيلات فخمة من حسنها تخالها قصور من ألف ليلة و ليلة، كان الرجل قد ألف منظرها حتى لم يعد يعر لها بالا، لم يكن يربطه بكل هذه الأبهة سوى أكياس المهملات التي توضع أمام أبواب تلك الفيلات، و حتى و إن حدث و أن خانته عينه و رأى ما لم يخطر عليه من رغد العيش، و هناءة البال، سرعان ما يحمد الله عز و جل و يرضى بما قسمه الله له.
وصل صاحبنا عند باب إحدى الفيلات و امتدت يده إلى كيس المهملات، أراد أن يحمله فلم يستطع، إنه كيس ثقيل ، ترى ما الذي بداخله؟ تساءل صاحبنا، ثم عزم على أن يفتحه ليرى ما فيه.
جلس الرجل ارضا و فتح الكيس عنوة و أخذ يقلب ما فيه من مهملات، عفوا بل حاجيات، لا بل …ما هذا الذي يراه الآن؟ أحقا هذه قمامة؟ علب شوكولاطة سوسرية فاخرة، و قوارير من المشروبات الغازية المتنوعة،و أكياس أجبان فرنسية ، وزجاجات فارغة تفوح عطرا من الماركات العالمية ، و كيس به لحم مشوي، و قطع كيك بالشوكولاطة اللذيذة، و حلويات من مختلف الأصناف و…أهذه حقا مهملات؟
أخذ يفكر بينه و بين نفسه : ماذا عن ثلاجة الفيلا إذن إن كان كيس القمامة بهذا الغنى؟ و قبل ان يسرح بعيدا سمع صاحبه يناديه أن أقبل بالكيس إلى الشاحنة فقد تأخرنا.
قام متثاقلا و عزم على غلق الكيس كأن لم يره ابدا ،و حين امتدت يده لغلقه لمح علبة صغيرة، ترى أي علبة تلك؟ أخرجها فإذا بها علبة دواء، ضحك الرجل بسخرية وقال: لا بد و أنه لمعالجة التخمة، ثم جرّ الكيس و بصعوبة بالغة رمى بما يحتويه في الشاحنة.
أمضى ليله كاملا يجمع أكياس القمامة من المدينة، و بقي باله منشغلا بالكيس إياه، حتى علا آذان الفجر الآفاق، فقصد المسجد و صلى كعادته و دعا ثم قفل راجعا إلى بيته.
دخل البيت، لكنه شعر بما لم يشعر به من قبل، بدأ ينظر لباب بيته المهترئ، و سرعان ما تذكّر باب تلك الفيلا، كم هو عظيم، ثم نظر إلى جدران بيته البالية و قد ملأتها التصدعات من كل اتجاه،و مرة أخرى عادت به مخيلته إلى الأسوار الضخمة التي تحيط بتلك الفيلا.
دخل الغرفة، وأي غرفة، لم تكن له غرفة نوم تجمعه و زوجته، بل كان البيت كله غرفة واحدة، و قد قسمه بأقمشة قديمة إلى أقسام، فجزء مخصص له و لزوجته، و جزء للأطفال و جزء بسيط للمطبخ،و لله الحمد الحمام يتقاسمه مع الجيران.
كانت زوجته تقرأ القرآن، و كان أطفاله كلهم نيام، وجد الفراش الذي لم يجدده منذ عشرة أعوام بانتظاره، استلقى عليه، فلامس ظهره الأرض، شعر بالبرد الشديد، إنها المرة الأولى التي يشعر فيها صاحبنا أن الفراش الذي ينام فيه لم يعد صالحا للاستعمال،و ما إن وضع رأسه على شبه الوسادة حتى سرح خياله في الفيلا، ترى إذا كان ذلك هو شكل الباب فكيف بالغرفة التي ينام فيها صاحب ذلك القصر الفخم، وأخذ يتخيل غرفة فسيحة الأرجاء،بها نوافذ كبيرة تغطيها أستارصممت خصيصا لتمتع هؤلاء، و سرير عريض بفرش حريرية زاهية،و خزانة تمتد على عرض حائط الغرفة، وكوافيرة وضعت عليها أجمل أنواع العطور العالمية ، نام صاحبنا و هو يحلم بتلك الغرفة.
جاء الصباح، و فتح عينيه على صوت ابنه الرضيع و هو يبكي ، و زوجته تجلس هناك في زاوية “حقيرة” يسمونها المطبخ، تغسل الملابس و قد احدودب ظهرها من انحناآتها في الغسيل تارة و في الطبخ تارة أخرى، إنها زاوية صغيرة من البيت بها رفوف خشبية مائلة توضع فيها بضع مواعين و أسفلها فرن قديم لم يعد له أخ يؤنسه.
دخل تلك الزاوية و أمسك طاسة أدخلها في وعاء ثم وضعها جانبا و غسل وجهه و نفسه تحدّثه: ترى كيف هو حمام صاحب الفيلا؟ مرة ثانية أراد أن يتخيل لكن الفرصة لم تتح له هذه المرة، إنه لا يكاد يتصور كيف يكون حمام الأغنياء، و أنى له ذلك و لم ير في حياته سوى حمامات الفقراء، لاشك أنه لا يقل فخامة عن غرفة النوم، قال صاحبنا.
وضعت له زوجته على مائدة بسيطة فنجان القهوة ، هييه، قهوة، قهوة حاف، غصبا عنه عاد ثانية إلى الفيلا ، تذكر كيس المهملات و ما فيه من أطيب المأكولات، و شرع يتخيل الخادمة و قد حضّرت فطور الصباح بسكويت انجليزي، مع شاي و كعكة شوكولاطة، و جبنة لذيذة، و…و ماذا؟ ترى بما يفطر الأغنياء، وضعت الخادمة كل هذه المشهيات على صينية و خرجت بها إلى حمام السباحة، هناك يجلس صاحب الفيلا مع زوجته يتبادلان الضحك و النكات، و ابنهم الصغير يسبح و ابنتهم المدللة في الباحة الخلفية للفيلا حيث تمارس الرياضة كي تحافظ على رشاقتها، ضحك باستهزاء و تنهّد بشق الأنفس و رفع فنجان القهوة ليشربها فصاحت زوجته: إنه بدون سكر…أجاب: نعم، أريده بدون سكر ثم قال بصوت خافت لم يسمعه إلا هو: تماما مثل حياتنا.
هكذا صار صاحبنا يرى عيشه، بعد أن كان الرضا يملأ قلبه، لقد صارت حياته منذ ذلك اليوم متعلقة بالفيلا، إذا خرج إلى المقهى سأل نفسه: ترى أين يقضي صاحب الفيلا أوقات فراغه؟ و إذا ذهب ليتبضع قال: ترى ماذا يشتري صاحب الفيلا؟ و إذا فزع إلى نومه تخيل غرفة نوم صاحب الفيلا، و إذا دخل الحمام أراد أن يتصور حمام صاحب الفيلا لكنه كان يفشل في كل مرة.
و مرت الأيام، و تحولت نكدا و غمة بعد ان كانت السعادة لا تسعه، لقد اكتشف أنه لا يعيش، اكتشف أنه ميّت، لكن الفرق الوحيد بينه و بين أهل القبور أنه لم يدفن بعد، لا بل إنه مدفون في قبر صغير يسمى بيتا، و كان كلما راح ليجمع القمامة فتح كيس تلك الفيلا و رأى ما فيه من خيرات فازدادت حسرته حتى يكاد يغمى عليه ، ما كل هذه الخيرات ؟ تتوسطها علبة دواء صغيرة، دواء التخمة يقول صاحبنا، لقد كره الدنيا بما فيها، كره بيته، و زوجته و أولاده، كره عمله، كره اصحابه و خلانه، حتى المسجد الذي كان يتردد عليه فرحا مغمورا صار يفزع إليه بخطى متثاقلة، فما عاد دعاؤه كما كان من قبل، بل ما عادت صلاته كما كانت من قبل.
ذات يوم، وصل صاحبنا إلى الفيلا اياها ليأخذ كيس المهملات فرأى زحاما كثيرا من الناس ، الباب مفتوح لأول مرة، و جموع غفيرة من أصحاب البدل الفخمة يقصدون الفيلا من كل حدب و صوب، ما الذي يحدث؟ أهي حفلة عيد ميلاد مثلا؟ اقترب صاحبنا شيئا فشيئا من الباب و تظاهر أنه يبحث عن الكيس، و ألقى النظر إلى الداخل فسمع صوت القرآن الكريم، إنه عزاء إذن، لكن عزاء من؟ قبل أن يغرق في تفكيره وجد رجلين أمامه يتحدثان فسمع أحدهما يقول: لقد اكد الطبيب الشرعي أنه توفي منذ ثلاثة ايام لكن لا احد عرف بموته لأنه يعيش بمفرده فأجاب الآخر: رأيته منذ فترة و قد بدت عليه ملامح المرض الشديد لقد صدق من سماه بالمرض الخبيث، رحمه الله، المهم متى يأتي المحامي ليوزع المال على الورثة؟
صعق صاحبنا مما يسمع: الرجل كان يعيش في هذه الفيلا العظيمة بمفرده؟ لم تكن له زوجة يتبادل معها النكات، و لا ولد يسبح في حمام السباحة، و لا بنت مدللة تمارس الرياضة لتكون رشيقة ، و لا حتى خادمة تؤمر فتطيع ، و لم تكن علبة الدواء تلك لمعالجة التخمة، و لكن مجرد تطمينة له يقاوم بها الداء الخبيث، ربما كانت له الغرفة الواسعة، و الحمام الذي لم يتمكن من تصوّره، و كان يتناول ما لذ من أطعمة و طاب و كانت تفوح رائحة العطر الفرنسي من جسده ، لكن ما فائدة كل هذه النعم إن لم يكن لنا أحباب نتقاسمها معهم، يفرحون لفرحنا و يألمون لألامنا.
عاد صاحبنا أدراجه و هو يقول: تبا للشوكولاطة السويسرية ، و الجبنة الفرنسية، و العطور العالمية، وتبا للمطبخ الفسيح و الغرفة الفارهة، و الحديقة الغناء، تبا للباب الضخم و الأسوار العالية إن كان ثمن هذا كله أن يعيش المرء وحيدا محروما من حب أحد ، حتى إذا مات لم يشعر به أحد.
مهمــــلات (قصة قصيرة) تأليف: وريدة كلّوش
مشى بخطوات سريعة نحو مسجد الحي، إنه آذان العشاء و عليه ان يكون في الصف الأول بعد الإمام كما تعوّد دائما، فذاك هو المكان المحبب إلى قلبه، صلى و سلم ثم رفع يديه إلى السماء داعيا الله تعالى أن يسدّد خطاه و أن يغنيه بحلاله عن حرامه، ثم خرج إلى عمله.
إنه يعمل بالليل حيث الناس بين راقد تدغدغه أحلامه، و صاح يلهو مع اصحابه و خلانه ،و كلاهما يتقاطعان في نقطة واحدة: نسيان ما فات من آلام النهار، و ضنك العيش، وهموم الدنيا، و مشاكل الحياة..
صاحبنا لم يكن يعرف من هذه المصطلحات شيئا، عاش طوال حياته راض بقضاء الله و قدره، مطمئنا على رزقه، مكتفيا بقوت يومه، تلك اللقيمات التي ما إن يتناولها مع زوجته و أبنائه الخمس حتى يشعر بسعادة بالغة يداهن بها أصحاب القصور، لقد كان يعمل ليلا طوال الشهر ليحصل على راتب زهيد، كان يصفه أقرباؤه بالـ “بقشيش” لكنهم يحسدون صاحبنا على الرضا الذي يهنأ بين جنباته.
و هكذا مضت الأيام بصاحبنا، بين أزقة المدينة الضيقة حيث يقطن أمثاله من المستورين، و شوارعها الفسيحة حيث طبقة راقية لا يعلم بحالها إلا الله، يجمع أكياس القمامة و يرمي بها في الشاحنة ثم تذهب الشاحنة إلى أبعد نقطة في البلدة لتهوي بالذي تحمله في واد سحيق.
ذات يوم، وصل صاحبنا كعادته لأحد الشوارع الغنية، شارع مترامي الأطراف، تزيّنه قناديل كاشفة كأنها درر تنصع ، يملؤه فيلات فخمة من حسنها تخالها قصور من ألف ليلة و ليلة، كان الرجل قد ألف منظرها حتى لم يعد يعر لها بالا، لم يكن يربطه بكل هذه الأبهة سوى أكياس المهملات التي توضع أمام أبواب تلك الفيلات، و حتى و إن حدث و أن خانته عينه و رأى ما لم يخطر عليه من رغد العيش، و هناءة البال، سرعان ما يحمد الله عز و جل و يرضى بما قسمه الله له.
وصل صاحبنا عند باب إحدى الفيلات و امتدت يده إلى كيس المهملات، أراد أن يحمله فلم يستطع، إنه كيس ثقيل ، ترى ما الذي بداخله؟ تساءل صاحبنا، ثم عزم على أن يفتحه ليرى ما فيه.
جلس الرجل ارضا و فتح الكيس عنوة و أخذ يقلب ما فيه من مهملات، عفوا بل حاجيات، لا بل …ما هذا الذي يراه الآن؟ أحقا هذه قمامة؟ علب شوكولاطة سوسرية فاخرة، و قوارير من المشروبات الغازية المتنوعة،و أكياس أجبان فرنسية ، وزجاجات فارغة تفوح عطرا من الماركات العالمية ، و كيس به لحم مشوي، و قطع كيك بالشوكولاطة اللذيذة، و حلويات من مختلف الأصناف و…أهذه حقا مهملات؟
أخذ يفكر بينه و بين نفسه : ماذا عن ثلاجة الفيلا إذن إن كان كيس القمامة بهذا الغنى؟ و قبل ان يسرح بعيدا سمع صاحبه يناديه أن أقبل بالكيس إلى الشاحنة فقد تأخرنا.
قام متثاقلا و عزم على غلق الكيس كأن لم يره ابدا ،و حين امتدت يده لغلقه لمح علبة صغيرة، ترى أي علبة تلك؟ أخرجها فإذا بها علبة دواء، ضحك الرجل بسخرية وقال: لا بد و أنه لمعالجة التخمة، ثم جرّ الكيس و بصعوبة بالغة رمى بما يحتويه في الشاحنة.
أمضى ليله كاملا يجمع أكياس القمامة من المدينة، و بقي باله منشغلا بالكيس إياه، حتى علا آذان الفجر الآفاق، فقصد المسجد و صلى كعادته و دعا ثم قفل راجعا إلى بيته.
دخل البيت، لكنه شعر بما لم يشعر به من قبل، بدأ ينظر لباب بيته المهترئ، و سرعان ما تذكّر باب تلك الفيلا، كم هو عظيم، ثم نظر إلى جدران بيته البالية و قد ملأتها التصدعات من كل اتجاه،و مرة أخرى عادت به مخيلته إلى الأسوار الضخمة التي تحيط بتلك الفيلا.
دخل الغرفة، وأي غرفة، لم تكن له غرفة نوم تجمعه و زوجته، بل كان البيت كله غرفة واحدة، و قد قسمه بأقمشة قديمة إلى أقسام، فجزء مخصص له و لزوجته، و جزء للأطفال و جزء بسيط للمطبخ،و لله الحمد الحمام يتقاسمه مع الجيران.
كانت زوجته تقرأ القرآن، و كان أطفاله كلهم نيام، وجد الفراش الذي لم يجدده منذ عشرة أعوام بانتظاره، استلقى عليه، فلامس ظهره الأرض، شعر بالبرد الشديد، إنها المرة الأولى التي يشعر فيها صاحبنا أن الفراش الذي ينام فيه لم يعد صالحا للاستعمال،و ما إن وضع رأسه على شبه الوسادة حتى سرح خياله في الفيلا، ترى إذا كان ذلك هو شكل الباب فكيف بالغرفة التي ينام فيها صاحب ذلك القصر الفخم، وأخذ يتخيل غرفة فسيحة الأرجاء،بها نوافذ كبيرة تغطيها أستارصممت خصيصا لتمتع هؤلاء، و سرير عريض بفرش حريرية زاهية،و خزانة تمتد على عرض حائط الغرفة، وكوافيرة وضعت عليها أجمل أنواع العطور العالمية ، نام صاحبنا و هو يحلم بتلك الغرفة.
جاء الصباح، و فتح عينيه على صوت ابنه الرضيع و هو يبكي ، و زوجته تجلس هناك في زاوية “حقيرة” يسمونها المطبخ، تغسل الملابس و قد احدودب ظهرها من انحناآتها في الغسيل تارة و في الطبخ تارة أخرى، إنها زاوية صغيرة من البيت بها رفوف خشبية مائلة توضع فيها بضع مواعين و أسفلها فرن قديم لم يعد له أخ يؤنسه.
دخل تلك الزاوية و أمسك طاسة أدخلها في وعاء ثم وضعها جانبا و غسل وجهه و نفسه تحدّثه: ترى كيف هو حمام صاحب الفيلا؟ مرة ثانية أراد أن يتخيل لكن الفرصة لم تتح له هذه المرة، إنه لا يكاد يتصور كيف يكون حمام الأغنياء، و أنى له ذلك و لم ير في حياته سوى حمامات الفقراء، لاشك أنه لا يقل فخامة عن غرفة النوم، قال صاحبنا.
وضعت له زوجته على مائدة بسيطة فنجان القهوة ، هييه، قهوة، قهوة حاف، غصبا عنه عاد ثانية إلى الفيلا ، تذكر كيس المهملات و ما فيه من أطيب المأكولات، و شرع يتخيل الخادمة و قد حضّرت فطور الصباح بسكويت انجليزي، مع شاي و كعكة شوكولاطة، و جبنة لذيذة، و…و ماذا؟ ترى بما يفطر الأغنياء، وضعت الخادمة كل هذه المشهيات على صينية و خرجت بها إلى حمام السباحة، هناك يجلس صاحب الفيلا مع زوجته يتبادلان الضحك و النكات، و ابنهم الصغير يسبح و ابنتهم المدللة في الباحة الخلفية للفيلا حيث تمارس الرياضة كي تحافظ على رشاقتها، ضحك باستهزاء و تنهّد بشق الأنفس و رفع فنجان القهوة ليشربها فصاحت زوجته: إنه بدون سكر…أجاب: نعم، أريده بدون سكر ثم قال بصوت خافت لم يسمعه إلا هو: تماما مثل حياتنا.
هكذا صار صاحبنا يرى عيشه، بعد أن كان الرضا يملأ قلبه، لقد صارت حياته منذ ذلك اليوم متعلقة بالفيلا، إذا خرج إلى المقهى سأل نفسه: ترى أين يقضي صاحب الفيلا أوقات فراغه؟ و إذا ذهب ليتبضع قال: ترى ماذا يشتري صاحب الفيلا؟ و إذا فزع إلى نومه تخيل غرفة نوم صاحب الفيلا، و إذا دخل الحمام أراد أن يتصور حمام صاحب الفيلا لكنه كان يفشل في كل مرة.
و مرت الأيام، و تحولت نكدا و غمة بعد ان كانت السعادة لا تسعه، لقد اكتشف أنه لا يعيش، اكتشف أنه ميّت، لكن الفرق الوحيد بينه و بين أهل القبور أنه لم يدفن بعد، لا بل إنه مدفون في قبر صغير يسمى بيتا، و كان كلما راح ليجمع القمامة فتح كيس تلك الفيلا و رأى ما فيه من خيرات فازدادت حسرته حتى يكاد يغمى عليه ، ما كل هذه الخيرات ؟ تتوسطها علبة دواء صغيرة، دواء التخمة يقول صاحبنا، لقد كره الدنيا بما فيها، كره بيته، و زوجته و أولاده، كره عمله، كره اصحابه و خلانه، حتى المسجد الذي كان يتردد عليه فرحا مغمورا صار يفزع إليه بخطى متثاقلة، فما عاد دعاؤه كما كان من قبل، بل ما عادت صلاته كما كانت من قبل.
ذات يوم، وصل صاحبنا إلى الفيلا اياها ليأخذ كيس المهملات فرأى زحاما كثيرا من الناس ، الباب مفتوح لأول مرة، و جموع غفيرة من أصحاب البدل الفخمة يقصدون الفيلا من كل حدب و صوب، ما الذي يحدث؟ أهي حفلة عيد ميلاد مثلا؟ اقترب صاحبنا شيئا فشيئا من الباب و تظاهر أنه يبحث عن الكيس، و ألقى النظر إلى الداخل فسمع صوت القرآن الكريم، إنه عزاء إذن، لكن عزاء من؟ قبل أن يغرق في تفكيره وجد رجلين أمامه يتحدثان فسمع أحدهما يقول: لقد اكد الطبيب الشرعي أنه توفي منذ ثلاثة ايام لكن لا احد عرف بموته لأنه يعيش بمفرده فأجاب الآخر: رأيته منذ فترة و قد بدت عليه ملامح المرض الشديد لقد صدق من سماه بالمرض الخبيث، رحمه الله، المهم متى يأتي المحامي ليوزع المال على الورثة؟
صعق صاحبنا مما يسمع: الرجل كان يعيش في هذه الفيلا العظيمة بمفرده؟ لم تكن له زوجة يتبادل معها النكات، و لا ولد يسبح في حمام السباحة، و لا بنت مدللة تمارس الرياضة لتكون رشيقة ، و لا حتى خادمة تؤمر فتطيع ، و لم تكن علبة الدواء تلك لمعالجة التخمة، و لكن مجرد تطمينة له يقاوم بها الداء الخبيث، ربما كانت له الغرفة الواسعة، و الحمام الذي لم يتمكن من تصوّره، و كان يتناول ما لذ من أطعمة و طاب و كانت تفوح رائحة العطر الفرنسي من جسده ، لكن ما فائدة كل هذه النعم إن لم يكن لنا أحباب نتقاسمها معهم، يفرحون لفرحنا و يألمون لألامنا.
عاد صاحبنا أدراجه و هو يقول: تبا للشوكولاطة السويسرية ، و الجبنة الفرنسية، و العطور العالمية، وتبا للمطبخ الفسيح و الغرفة الفارهة، و الحديقة الغناء، تبا للباب الضخم و الأسوار العالية إن كان ثمن هذا كله أن يعيش المرء وحيدا محروما من حب أحد ، حتى إذا مات لم يشعر به أحد.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى